الأحد، 14 أكتوبر 2018

قصة قصيرة: قهقهات نظرية قاتلة


قَهْقهَات نظَرية قاتلة[1]




في ذَلكَ المَكان، كان من المفروض أن تبدأ تلك الحكاية. نعم كنت أتخيل ذلك وأرسم خُطَطًا عديدة كما تصورتها متأثرا بالأفلام والمسلسلات التي ابتسمتُ حَالِمًا وأنا أشاهدها بشغف، لم أهتم أبدا سوى بالحبّ المثالي الذي قدّمَتْهُ لي لأبحث عنه وأعيشه بنفس الحدة والرومانسية الخطيرة.. نعم كنت شابا مختلفا جدا، أحمل قلبا وحيدا استيقظ لِتَوِّه من الطفولة البريئة لِيَلِجَ صراع "الدّونكيشوت"[2] ضد الواقع بسيف مُراهَقة ثائرة متأخرة قليلا تريد أن تصنع عالما خاصا وفريدا نكون أنا وأنت فيه أميرا وأميرة نحكم مدينة فاضلة أو قلعة على مقاس الأغنيات العاطفية المثيرة.. ها نحن نرقص على بساط من الورد والزهر والتِّبْر..
اقتربتُ كثيرا، ضحكتُ.. قلتُ: أنت التي..
نظرْتِ إليّ نظرة مريبة، ثم استدرْتِ بكبرياء وكِدْت ترفرفين في سماء المحطة.. استوقفتك: من فضلك، هي كلمات فقط..
- هل تعرفُ من أكون؟
- أنتِ التي..
- أنتَ نوعٌ غريب..
- ماذا لو بدأنا حديثا؟
- ماذا لو تبادلنا نظرات فقط.
- ولكن الحب يكون من أول نظرة؟
لأول مرة أكتشف قهقهة تشبه قطعة موسيقية مستفزة تنسَلُّ إلى أسماع المجانين ولا يتمكنون من معرفة صاحبها أو حتى مصدرها للكشف عن هوية مبدع هذا الفن المتعالي الجمال.. نعم لست أبالغ، أنا أرى الأمور هكذا بصدق، ولست على استعداد لتضييع هذه الفرصة التي مكَّنتْ رغبتي من أن تحلق عاليا بعيدا عن أي شيء مبتذل أو عادي.. إنها لذّة بحار لم يسبق له رؤية شاطئ حتى يشهق بهجة لقاء البحر من منظور الأرض!
- هل لي بضحكة أخرى؟
- إنها لا تتكرر اللحظة..
- ولكن يزداد التَمَاسّ.
- هل تعرفين أني كنت أبحث عنك..
- ستقول منذ زمن؟
- ربما منذ قبل الزمن، لأن زمني بدأ للتّو..
- ماذا لو؟
- ليست لدي حساسية تجاه الحكايات التي تغرب عليها الشمس وتتركها لِظِلّ قلب وحيد..
- شجاع..
- ما انتظَرْتُهُ يستحق حتى لو كنت جبانا طيلة حياتي.
- كيف حدث كل هذا؟
- ربما كان يجب أن يحدث هذا.
- ولكنَّكَ اعترفت باستعدادك لتحمل النتائج؟
- ما سيحدث، سيحدث.. واللحظة التي أعيشها، أعيشها بكل ما أوتيتُ من قوة..
خُيّل إلي أنك تدرسين ملفي بشكل تمتزج فيه الحيرة بالرغبة، القلق بالراحة.. لم يكن لديّ شك في أني مثل كتاب مفتوح أمامك، وكل ما يتوجب عليك، أن تتركي حاستك الخارقة تقودك نحو الشعور اللازم حتى يحدث التماسّ دون ضغط أو تعسف. هكذا يتصور هذا القلب ذو الماضي الدرامي الأمور.. ربما تكون الحياة بعكس الحكاية ولكني عازم أن أنتصر على أية هزيمة مفترضة ولو بتعديل نظرتي المراهِقَة إلى الفشل كحدث للتعايش والتقبُّل.. لأن المعجزات تحدث فعلا.. كما يحدث الحب هكذا بدون خرائط مُحْكمة ومحبوكة..
- يبدو أنك فيلسوف.
- وهل أحتاج أن أكون كذلك؟
- برهان خُلف..
قهقهة أخرى جعلتني أخرج عن آخر ما تبقى من وعيي لأمسك بيدك هكذا وبدون أية جرأة لأني لم أعرف كيف فعلت ذلك أصلا.. إنها الضحكة التي..
نزعْتِ يدك بارتباك، وكما في تلك المسلسلات التي مازالت تسكن ذاكرتي، احمرّت وجنتاك خجلا وابتسمت هذه المرة ابتسامة خفيفة سرعان ما تلاها وجه عابس ولكن ليس بحدّة، مع ذلك لم ينقص من سِحْر ملامحك شيئا..
- سأغادر..
- الأمر جادّ إذن؟
لا بد أن الحكاية تعيد بناء مفهوم القهقهة في قاموس العشق الذي لا ينفك يخرج من عدم الزمن السريع الرهيب.. كنت على استعداد غير مسبوق لأصيح ملء المحطة: أحبك.. فقط كنت بَعْدُ أقرأ أفكارك حتى لا تُفْسِد الثواني الآتية تأويلي المذموم على انبثاقه من تماس أسطوري لا يكذب..
- حسنا.. سأنتظرك في أي مكان...
- أنت مؤمن نادر.
- أنا عاشق بين النضج والجنون.
- وما سيحدث، سيحدُث..
قالت ما قالت وبدت عليها انفراجة ماكرة.. تشبه مكر التاريخ، وهذا يُنقذ نظريتي في انتظار واقعة واحدة تؤكد أن الحكاية كان من المفروض أن تبدأ هنا.. في هذا المكان.. بالضبط.. أو قليلا..

توفيق بوشري
المغرب


[1] حازت هذه القصة القصيرة على الجائزة الثالثة لمسابقة القصة القصيرة المنظمة من طرف اتحاد الكتاب العرب فرع الرقة 2018.


[2] الدونكيشوت أو الدونكيخوطي بالإسبانية وهي رواية للكاتب سيرفانتيس تحمل اسم شخصية الرجل الذي فقد عقله ليتخيل نفسه فارسا نبيلا يخوض معارك وهمية من أجل العدالة والشهامة في عالم من نسج خياله...