سأمرح اليوم كثيرا. سأصول وأجول كما يقولون. أمي ليست في البيت. سأفعل كل ما يحلو لي، سأركب المكنسة فرسا، أحمل المطرية سيفا، أهاجم الأرض المحظورة، الصالون. ياه.. منذ مدة لم أترنح على أفرشته الاسفنجية. سأسوي الوسائد ثكنات عسكرية. أقتنص الأعداء بمطريتي؛ أقصد رشاشي "الواعر"، الذي تخيلته سيفا قبل قليل!.. ثم بعد أن أمل من الحرب والانتصارات، سأفترشها في وسط الصالون، آتي من بعيد، أقفز بقوة. كأنه بحر أو مسبح. سأفعل كل ما منعتني منه السبابة مهددة كل مرة أحاول شيئا، وإن بسيطا.
أمي الآن في طريقها لزيارة وليها الصالح المفضل. الذي تدخل لها عند السماء، فتكورت بطنها بي. أنا الذكر الوحيد. ربما ذهبت لتشكره. أو لتطلب فتاة هذه المرة. إذا كان مختصا في الجنسين. تعجبني الفكرة. أن تصير لي أخت، تؤنسني، ألعب معها. وقبل كل ذلك ألعب بها عندما تكون بعد كالدمية صغيرة جدا. أضربها، أوبخها عندما تكبر قليلا.. فأنا سأكون الأكبر صاحب "العقل" والمعرفة والتجربة. لن تحتج أمي.. بل ستقول لها: افعلي ما يقوله لك أخوك. إنه أكبر منك. فينتفش ريشي وأنا أغيظها بإخراج لساني لها كالأفعى انتصارا.. فتغضب وتكشر وتصرخ. أخشى فقط مع مرور الأيام أن تنتهي أيام حكمي، لتخلفني على عرش الدلال و"الفشوش" وتلبية الرغبات جميعها وإن عزت. لقد ولدت لأمي بعدما رأت النجوم تتراقص في عز النهار وهي تبكي وتتشاجر مع أبي. أريد طفلا.. هل سأبقى هكذا كالصحراء القاحلة. هل يعجبك أن نظل يتيمين؟ هل تروق لك لمزات وغمزات أمك؟ وعندما لا تنال منه شيئا تهرع لزيارة أولياء الله الصالحين، وحتى القبور المهجورة التي يزعمون أنها لأناس ذوي بركات وخوارق. حتى الصخور في القرى البعيدة تمسحت بها وقبلتهاـ بل سفت ترابها! لم تترك فقيها ولا عرافا إلا ولجت مغارته ورمت بين يديه "الفتوح" والدجاج المختلف الألوان والأشكال والتسميات. جربت كل الوصفات المعروفة والغريبة والأغرب التي وصفتها لها الجارات ونساء العائلة، بل السيدات العابرات اللواتي كانت تلتقيهن في عيادات الأطباء، في السوق أو عند البقال. أكلت ما لا يؤكل بداية من الأعشاب المريبة الأسماء. "المساخن" سمعت مرة إحدى العواجيز تخبرها أنها تسخن الكرش فيستقر فيه الولد من الضربة الأولى، والقديد الذي جمعته من بيوت الحي وهي تهرول من زقاق إلى آخركالمجنونة تطلبه شاكية باكية ساردة القصة التي يعرفونها من أولها، وهي تحسب لتكمل المائة قطعة قديد إلا واحدة. ربما الحكمة في تلك الناقصة!لقد عانت أمي المسكينة كثيرا، لطالما سمعت وأنا في السماء جدتي تنكزها بعبارة العقم وأخواتها مرارا، وأمي تحبس العبرات ووجهها يكاد ينفجر حنقا وغيظا من شدة الضعف وقلة الحيلة. لكم وددت أن أمسك جدتي الشريرة من أنفها الضخم البارز فأجرها بشدة حتى تسأل أمي مسامحتها، وأن أتبول عليها وهي ساجدة تصلي صلاتها الباطلة. ولكني كنت بعد شبحا ومشروعا. أردت معاقبتها، فمن يصلي لا يؤذي الناس. هكذا يقول القرآن والرسول. جدتي خبيثة. لا أدري لم لم تعمل لها عملا عند عراف من الذين تزورهم يسكتها.. يشل لسانها وما تبقى من عضلاتها ومفاصلها الواهنة. كانت تريد الأطفال فقط. أمي طيبة. لقد اضطرت إثر أفعال جدتي وبعض القريبات من طينتها أن تفعل أكثر، وما لا يخطر على بال لتخرسهم إلى الأبد.. بي.. أنا الأمير الذي كان مازال هناك.. غيبا. مرة أحضرت لها خالتي "هنية" التي نناديها هكذا مع أنها ليست أخت أمي.. خلاصا لامرأة أنجبت لتوها توأمين. يا لحظها المضاعف!دخلت وأمي إلى غرفة النوم فهرعت إلى النافذة. بل مررت عبر الجدار. كنت بعد طيفاأسترق السمع والنظر. رأيت خالتي "هنية" تضع الخلاص المقزز على السرير وتجلس عليه أمي وهي تمسك بها وتهمس لها. حرارته ستكون مباركة إن شاء الله. ما من واحدة جربته إلا ورزقت الخلف بلا عدد.. ومعهم المدد! وأمي تردد مبتهلة متوترة: على الله... على الله الحبيب. أنا "مزاوكة" يا سيدي ربي. أنا فعار سيدي العربي.. ولالة الضاوية. تغمض عينيها وتفيض في الدعاء حتى تنسدل الدموع على خديها بحرارة الخلاص الذي تحتها. عانت والدتي كثيرا،وتألمت وأنا أراقبها من السماء. أو أتجول بالقرب منها ملاكا، ولا أستطيع أن أرتمي في أحضانها وأطلعها على قدومي السار.. أبشرها به قبل أن تقدم على عجيب الأمور وخطيرها. لقد بلغ بها اليأس حدا مهولا. في مرة أقدمت على أكل الفئران. نعم. إحدى المهووسات بالشعوذة والخزعبلات أسرت لها بأن إحدى النسوة في الدرب المجاور طرقت أبواب المستحيل ولم تنجح في نفخ بطنها إلا عندما وقعت على كنز وجبة الفئران!ما هذه الجنة تحت أقدام الأمهات؟يفعلن كل هذا من أجلنا نحن العاقون في نهاية الأمر؟تناولت أمي الفأر المطبوخ بعد تردد واشمئزاز زالا فور تذكير المهووسة لها بغرضها المقدس.. الأولاد هادو.. كولي. عقلتي على عجوزتك آش دوزت وقالت عليك؟؟ كولي باش تجيبي ليهم سيد الرجال!فاقترفت أمي الجنون. حملت المشعوذة الفأر الناضج تفور منه أبخرة السخونة إلى فم أمي المبتلاة فسدت عينيها وابتلعته وهي تزعق كأنها سيارة معطوبة الفرامل. لقد فعلت. أحسست كأنني ابتلعته أيضا لحظتها. حتى تقيأت. لولا أن قيئي وأنا في السماء هلامي لسقط على رأس محظوظ هذه العشية،فغير خططه وعكر مزاجه.
ربما ذهبت أمي لتطلب بنتا هذه المرة لتساعدها في أعمال البيت. ستمشط شعرها الطويل لوقت يسير، بعد أن تمرر المشط بين شعراتي القصيرة في ثانيتين وتأمرني بالانصراف. تزركش لها كفيها بالحناء التي أكرهها. تسر لها بكل شيء عندما ينزل منها الدم فتصبحان متشابهتين.. وأشياء أخرى كثيرة، وفي الانتظار إلى المطبخ الآن. سأملأ حوض غسيل الأواني بالماء، وأصنع سفنا بأوراق أنتزعها من دفاتري المدرسية،ثم أضعها في بحيرتي لتطفو وتبحر وأنا أجدف حواليها بيدي متناسيا العواصف ومثلث برمودا، حتى أحسست ريحا خفيفة من خلفي. لم تكن زوبعة. كانت يد أمي وقد أمسكت بي من قفاي. لم أحس بها حين فتحت الباب ولا عندما أغلقته. أحكمت قبضتها علي. بحثت عن الحزام المرعب وهي تجرجرني من ركن إلى ركن عبر البيت، وفي النهاية وجدته وألفيتني أصرخ من شدة الضربات القاسية المصحوبة بالسب والوعيد المسبق والتحذير من إعادة الكرة، وقد نسينا معا كل ما كان عندما كنت في السماء، وكانت في الأرض ترجو الغيث!
(فازت هذه القصة القصيرة بالجائزة الثانية لمسابقة أحمد بوزفور للقصة القصيرة – الدورة 11. 2014 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق