عندما وطأت قدماي مدينة الناظور للمرة الأولى.. لم تكن وجهتي.. كانت فقط محطة للعبور إلى إقليم الحسيمة حيث كان مقر عملي.. توقفت الناقلة في محطتها الطرقية بعد رحلة طويلة في الصباح الباكر.. وما إن هممت أتنشق نسمات استيقاظها حتى باغتني صوت "الكريسون" (القابض) الحاد.. على مقربة.. الحسيمة.. الحسيمة.. فحبست أنفاسي وأسرعت إلى ناقلة أخرى وأنا أحاول التقاط بعض أثاث المدينة وأشيائها من خلف أسوار المحطة.. غادرت الناظور، أرقب دوره، شوارعه وأزقته... تتلاشى وتصير خلف الناقلة.. وهكذا لم تتح لي سوى ذكرى باهتة مفعمة فقط بخيالات مغمورة..
بعد تسع سنوات.. توقف القطار في محطة جميلة ملهمة.. هنا الناظور.. وبنكهة الفرح العميق.. عدت إليها عريسا للقصة القصيرة جدا.. هل يحق لي قول ما قلته للتو؟ نعم، على الأقل بالنسبة لي.. هذه المرة جئت لأعانق "صفر درهم" وقد تحولت من مخطوط صامت على رفوف الصوان الذي حولته إلى خزانة بعدما فقد ثقة زوجتي.. من سطور خاملة إلى كتاب ناطق يحمل اسمي أعلاه، يتوسطه عنوانه: صفر درهم TTC وفي الأسفل حدد جنسه المتفلت مذيلا بمناسبة الحدث.. قصص قصيرة جدا فازت بالجائزة الأولى في مسابقة المهرجان العربي الثاني للقصة القصيرة جدا..
عندما أخبرني الأستاذ جمال الدين الخضيري مدير المهرجان هاتفيا قبل لحظات التتويج ولمس الكتاب العجيب.. بنيلي الجائزة وبطبع مخطوطي.. لم أنم تلك الليلة.. وكيف ينام من تحول حلم له إلى حقيقة؟.. جلست إلى حاسوبي.. رجعت إلى القصص.. أتفحصها، أتخيلها وقد صارت ملتئمة في سفر.. أحاول أن أتصور كيف سيكون غلافه.. أحسب كم تبقى من الأيام على الموعد.. أعيد قراءتها وأنا أراني أمسك الكتاب بين يدي.. كانت ليلة طويلة جدا.. وممتعة رغم قلق انتظار الحدث العظيم بالنسبة لي..
كان الاستقبال راقيا جدا.. أهل الناظور كنسيم لطيف.. أفراد جمعية جسور التي نظمت المهرجان انبروا للضيوف فرحين بعفوية وصدق.. كتاب ومبدعون ونقاد ألتقي بهم للمرة الأولى.. إنه تجمع مثالي يحملك من عالمك الروتيني البارد وحياتك اليومية المملة إلى لحظات راقية وفذة للغاية.. هنا تنسى قنينة الغاز الفارغة.. الدفاتر التي تنتظر التصحيح.. فاتورة الكهرباء.. الجوارب المهترئة.. لتسمو قليلا بغير جشع ولا طمع.. ولكن بحثا عن بعض السعادة الأدبية المادية لتؤمن الروح من جديد أن الحرف ليس مفارقا ولا مارقا وإنما هو لاجئ في انتظار العودة إلى حضن الحياة..
ها الكتاب بين يدي.. أحسست برعشة خفيفة.. ببساطة لم يكن كل هذا منتظرا.. نيل جائزة وطبع كتاب هو كتابي الأول.. أخذت أتجول بين القصص، أقرأها بشكل مختلف عما سبق.. فهي الآن عمل مشترك بشكل رسمي إذا صح القول بيني وبين النقاد والقراء.. فهل صرت كاتبا؟؟ ألم أكن كاتبا؟؟..
عندما بدأت الكتابة كنت أبلغ من العمر حوالي الخامسة عشرة.. أحمل قلمي وأقلد الكتاب الذين قرأت عنهم ولهم واطلعت على صورهم في بعض المجلات العربية القديمة، كمجلة العربي خاصة.. أحاكيهم في طقوس الكتابة كما تخيلتها، وفي أسلوبهم السردي والشعري، إلى درجة كبيرة من العشق والولع.. أناجيهم وأحادثهم في خلواتي.. ولم أخبر أحدا عنهم إلا أمي.. وكانت الوحيدة التي أخبرتها أني سأصير كاتبا مثلهم.. لأنهم تركوا كلماتهم العظيمة في سجل التاريخ..
كان دكان جدي عالما أوسع من الحي الذي كنا نقطن به في سلا، عالما مثيرا جذبني إليه بفضل الكلمة.. كنت أنغمس في الخلف بينما كان يبيع الناس المواد الغذائية أتفحص الجرائد والمجلات والكتب التي كان يشتريها بالكيلوغرام ليلف فيها الشاي والسكر والخميرة والحلوى.. كنت أضع جانبا ما يشدني منها لكي لا ينتهي ممزقا، محشوا بالسلع.. وكان رحمه الله يوقفني حين أهم بالمغادرة ويكتشف ككل مرة سر بطني المنتفخ إثر سرقتي كمية من المخطوطات وإخفائها تحت قميصي.. فيؤنبني ثم يضحك قائلا: اقرأها ثم أرجعها.. ولم أفعل يوما!!
فقد كان السحر قد تغلغل أعمق وأبعد.. أصبحت الكلمة كيانا.. وصارت الكتب جواهر قد أقاتل من أجلها.. وصار العظماء في العلم والأدب والفن عامة أطيافا تذهب معي أينما توجهت.. أستشهد بخالد أقوالهم في إنشاءاتي وامتحاناتي.. كما أستنجد بكتاباتهم لكي أعبر عن أحاسيسي ومشاعري وأنخرط بدوري في كون الكتابة البهيجة رغم الألم والاكراهات الجزيلة.. من مضايقات الأقران وسيادة لغة المادة والمظاهر مكان الثقافة واحتفاليات الحرف.. صار القلم طقسا مقدسا وتركيب الحروف انوجادا وصلاة..
ومع توالي الأيام.. ازداد الوجد.. ولم أعد أتساءل ما إذا كنت كاتبا.. بقدر ما تجلى الهاجس الأكبر.. الاكتمال والوجود بالكتابة وهواء النص.. يجيء الوحي في أوقات لا متوقعة.. في قاعة المحاضرات.. فأسجله هامشا أسفل الدرس.. في الحافلة وسط ازدحام شديد.. أدونه على التذكرة.. في المرحاض حتى.. أهرول إلى أوراقي.. لأخط الهلوسة الآتية من المجهول قبل أن تفر كفراشة عزيزة الجمال.. لا تسمح إلا بنظرة أولى والتقاط سحر أول..
الكتابة ليست إلا رحلة صوفية.. هذا ما أكده لي ميلاد كتابي الأول.. صفر درهم.. ttc.. نبحث من خلالها عن وجود حقيقي حتى لا نموت كأي شيء آخر.. وقبل أي شيء آخر..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق